Posted by : Unknown الاثنين، 12 مارس 2018




لكي يتسنى للمشاهد الاستمتاع بأفلام السينمائي الفرنسي برتران بونيلو، لا بد له من أن يطلق العنان لخياله وذاته ليذوب في عالم «بونيلو»، ملقيا بأحكامه المسبقة ومتفاديا لأي محاولة لفهم ما يجري. بونيلو ليس سينمائيا فرنسيا عاديا، يخنق المشاهد بجو فيلمه المرتب حد الهوس، أو سيناريو يخط بعناية دون السماح لأي ذرة من الغبار قد تخدش بجمالية مصطنعة كأفلام الفرنسي فرانسوا أوزون. بونيلو كمخرج يعد من أهم السينمائيين الفرنسيين فيما يعرف بالسينما الفرنسية «الحديثة» و«التجريبية» بعيدا عن جو السينما التقليدية وحتى بعيدا عن جو سينما الـ«نيو ويف» أو (الموجة الجديدة).
أفلامه لا يمكن حصرها داخل تصنيف تفاديا لظلم أفكاره المتوالدة من مشهد لآخر ومن لقطة لأخرى عند تصويره للمشهد ذاته. لكي نقترب من عالم بونيلو يجب علينا أن ندخل في متاهاته ونتبعه في داخل تلك الدوامة المتشكلة من غزارة الأفكار الخلاقة والمبدعة دون أن يكون هدفنا الوصول إلى نهاية «مريحة» أو «منتظرة». ينتقل بنا بونيلو من عالم لآخر ومن سؤال لآخر ليس في سبيل الوصول لحلول لتساؤلتنا أو محاولة لفهمه، بل بهدف بحت وبسيط يمكن في محاكاة فضولنا الدائم وتساؤلاتنا الفلسفية عن ما يحدث لنا في الحياة اليومية، وتجارب الإنسان العادي كتجارب «الحب»، «الجنس»، «الوحدة»، «الميلانكوليا» وغيرها من تجارب إنسانية بحتة ومعاصرة وكيفية النظر إليها في العصر الحديث. التساؤلات في أفلامه قد تكون لدى إنسان بسيط وعادي كـ«حارس لحديقة حيوان» الذي يظهر في فيلمه «شيء عضوي» أو قد تدور في عقل مصمم أزياء عالمي في فيلمه «سان لوران».
لدى بونيلو، الطبيعة الإنسانية متساوية أمام التغيرات الحديثة وتتشابه في تساؤلاتها في أفلامه ولا فرق بين إنسان وآخر كما ذكرت سابقا، فالكل متساوي أمام وحشية «الوحدة»، هذا «الوحش» الذي يبحث عنه بونيلو دون جدوى في فيلمه ليعود من جديد في فيلم يتحدث عن حياته كمخرج «الظهر الأحمر».
الفيلم يعرض حاليا في الصالات الفرنسية وهو فيلم من إخراج أنطوان بارو، قرر فيه التنحي جانبا وترك الحرية لبونيلو في الحديث والتعبير عن نفسه دون أي تدخل من جانبه. الفيلم مركب من مقاطع من أفلام بونيلو التي تم إخراجها وأخرى ذكرها بونيلو وكتب عنها في كتابه «فيلم فانتوم» أو «أفلام أشباح»، وهو عبارة عن أفكار عديدة لأفلام لم يتسن لبونيلو إنتاجها وإخراجها فأصبحت لديه مجرد أشباح. فيلم «الظهر الأحمر» يأخذنا في دوامة بونيلو الخيالية والإبداعية، حيث يؤدي بونيلو دوره «الحقيقي» كمخرج يبحث عن «وحش في لوحات فنية» في رغبة منه لكتابة سيناريو لفيلم يبحث عن إنتاجه وإخراجه. تساعده في غرضه منتجة الفيلم «التي توافق بحماسة لحد البكاء» إنتاج فيلمه وتثني على فكرته الخلاقة. تقوم المخرجة بتوظيف باحثة في تاريخ الفن والتي تؤدي دورها الممثلة «جين باليبار» ومن ثم يتم تبديلها بالممثلة «جيرالدين بيلهاس» لترافقه في المتاحف بحثا عن «الوحش» المطلوب. نزور كمشاهدين اللوحات لنقف كما «المخرج» في الفيلم متمعنين جيدا في اللوحات، نستمع لشرحها من الباحثة. ندخل في دهاليز الـ«مخرج» النفسية ورغباته وأحلامه، في محاولة لفهم ما يدور في داخله وفي دواخلنا في الوقت ذاته بسبب الإضطراب المتعمد الذي يشدنا خلال المشاهدة، فنصبح نحن أيضا «مشوشي» الفكر، تملؤنا التساؤلات فيما إذا كان ما نشاهده خيالا أو حلما في عقل الـ«مخرج» أم في واقعه. هذا الإضطراب يعود لعدة عوامل يشير إليها المخرج «بونيلو» في بداية الفيلم حينما يخبر المنتجة بأنه يريد أن يكتب سيناريو عن فيلم يعالج مسألة «الوحش» في الفن. ويعطينا أول إشارة قبل الدخول في المتاهة النفسية والداخلية المغلقة عندما يشير إلى فيلم «فيرتيجو» «الدوار» لألفرد هيتشكوك.
فيلم فيرتيجو «الدوار» يعد من أهم الأفلام السينمائية التي أثرت وألهمت مخرجين سينمائيين كثر كبونيلو نظرا لمعالجته لمسألة «الدبل» أي «تعدد شخصية الفصامي» واضطرابات البطل النفسية بحيث لا نعد نحن كمشاهدين نعرف ما إذا كان أبطال الفيلم واقعيون أم هم مجرد نسج خيال للبطل الرئيسي «المصاب بالاضطراب» وهم مجرد انعكاس لعدة وجوه مختلفة لشخصه! بونيلو تحدث عن «فيرتيجو» لكي يهيئنا كمشاهدين لما سيحدث فيما بعد، ولكي لا يشعر المشاهد بأنه «خارج» عن عالم المخرج ليبقى في حالة تيقظ من البداية إلى النهاية.
تتوضح الفكرة أيضا عندما نرى لقطة من فيلم لبونيلو يطلب فيها رجل من إمرأة شقراء ترتدي تايير رمادي كـ«كيم نوفاك» في فيلم هيتشكوك من أن ترفع بشعرها وتصففه تماما بنفس الطريقة التي نراها لدى كيم نوفاك في «الدوار» لهيتشكوك. الاضطراب الذي يرغب بونيلو الإشارة إليه للمشاهد لا يتوقف عند الإشارة المباشرة لفيلم «الدوار» أو إعادة تصوير لقطة كيم نوفاك وزيها، بل يظهر أيضا في تبديل البطلة «جين باليبار» الباحثة بأخرى «جيرالدين بيلهاس» مما يشعر البطل «بونيلو» باضطراب وخاصة عند قيام «باليبار» بتغيير قصات شعرها في كل مرة يلتقيها فنشعر بأننا كمشاهدين نلتبس دور«البطل» ونضطرب لاضطرابه. قصة «الدبل» و«الانفصام» تتكرر في أغلب أفلام بونيلو وخاصة الفيلم الأخير «سان لوران» في لقطة يرى فيها مصمم الأزياء «بطل الفيلم» نفسه في وجه عارضة تعمل لدى «شانيل» ويطلب منها في ان تعمل لديه. يظهر الاضطراب و«الدبل» أيضا في أفلام «بونيلو» من خلال استخدامه الدائم للمرآة وانعكاس الأبطال في أفلامه فيها. في فيلم «الظهر الأحمر» يظهر اتصال «المضطرب» مع محيطه «العالم الخارجي» فقط كإنعكاس نفسي وشخصي يعكس شعوره الدائم بالملل والوحدة الداخلية التي تساعده في إبداعه واختلافه وتشعره بتفوق على الآخر «الخارجي» قد يصل إلى شعور بالـ«نرجسية» فيرى انعكاس وجهه في المرآة أو في أبطال الفيلم المحيطين به والذين يعكسونه ويلبون رغباته التامة من دون نقاش. الوحش في «الظهر الأحمر» ليس سوى فكرة داخلية تتكرر في أفلام بونيلو، فالبحث عن «وحش» في الفن يؤكد فكرة «الجمال المشوه» لديه ويساعده في التعايش مع وحدته وعزلته. فالـ«وحش» يظهر أيضا في فيلمه «سان لوران» عندما رفض التركيز عن الحديث عن جمال وإبداع تصاميم المصمم المشهور «إيف سان لوران» وتأثيره في جمال المرأة وعالم الأزياء، بل تحدث عن «بشاعة» الشعور بالوحدة في عالم المصمم الـ«مصطنع» والـ«متملق» والـ«سطحي» حيث يلجأ الكل إلى المخدرات كموت بطيء، ويؤكد لنا ذلك من خلال جملة قد يرتكز عليها الفيلم حين يتحدث «سان لوران» إلى إلى إمرأة ترتدي ما صممه لها «لقد خلقت الوحش، ويجب علي الآن أن أعيش معه».
شخصية «سان لوران» تظهر في فيلم بونيلو كشخصية معذبة، مضطربة رغما عن ما يخلقه ويبتكره من تصاميم جميلة ومميزة ورغما من حياته الصاخبة والناجحة! وسواء كان في فيلم «سان لوران» أم في فيلم «أبولونيد، ذكريات دار دعارة» أو في فيلم «بورنوغرافي» و«شيء عضوي» فإن بونيلو يعكس دائما فكرة «الجمال المشوه» في سبيل التعبير عن «السوداوية» وتصوير الإنسان، كمعذب نفسيا ومضطرب في العصر الحديث.
في أفلام بونيلو تشابه كبير بينه وبين أفلام رائد السينما الإيطالية «أنطونيوني» حيث تظهر على بطلته «الفيتيشية» مونيكا فيتي أعراض الإضطراب والوحدة والميلانكوليا في محاولة منها لخلق تواصل مع عالم صناعي حديث وثورة تكنولوجية كبيرة. ويظهر ذلك واضحا من خلال إشارته «للحب» و«الجنس» أيا كانت شكلية العلاقة، فلا حدود للـ«حب» كبديل وحيد لاستمرارية الإنسانية.
إن في أفلام بونيلو وبخاصة دوره كمخرج في فيلم «الظهر الأحمر» الأخير إنعكاس شخصي لتجربته مع ما يحيطه، حيث يظهر هذا واضحا في الفيلم من خلال بقعة جلدية حمراء صغيرة تغطي ظهره ولا يراها سواه، عند بداية بحثه عن «الوحش في اللوحات الفنية» وتكبر البقعة شيئا فشيئا كلما تمعن في لوحة، لتغطي كامل ظهره في نهاية الفيلم وتظهر على رقبة حبيبته كعودة لفكرة «الحب كبديل» المتكررة في أفلامه. فكرة «الوحش الداخلي» تظهر أيضا من خلال تمعنه في لوحة أخيرة تأتي كخاتمة لبحثه وهي «بورتريه» للرسام البلجيكي ليون سبيليارت والتي تظهر «وجها مشوها» يبكي «بونيلو» أمامها. تظهر في أفلام بونيلو أيضا أجواء لأفلام «دافيد لينش» كاختياره لأماكن مغلقة التي تشعر المشاهد بخوف من الـ«كلوستروفوبيا» سواء كانت تلك الأماكن داخلية بأن يغلق البطل شعوره على نفسه «المعذبة»، أم من خلال ما يحيطه من ديكور «خانق» حيث تسدل الستائر وتحل العتمة والأضواء الخافتة. كما يظهر اللون الأحمر طاغيا في أفلامه العديدة، سواء عن طريق الإضاءة الليلة الخارجية أم إضاءة في غرفة أو في زي «الممثلين والممثلات» في أفلامه أو في بقعة حمراء تغطي ظهره ويشير إليها مباشرة في عنوان لفيلم يتحدث عن حياته «الظهر الأحمر».
نهاية، لأفلام بونيلو نكهتها الخاصة بها ولن يتمكن المشاهد من تذوقها إلا في حالة أن يطلق الحرية لنفسه بالدخول إلى متاهة بونيلو الشخصية والإبداعية حتى لو تولاه شعور بالإحباط لعدم حصوله على إجابات لأسئلة يطرحها عبر أفلامه. لأفلام بونيلو إسلوبها الخاص في معالجة وتصوير الجوانب السوداوية في الطبيعة الإنسانية في العصر الحديث. وما علينا إلا مشاركته في البحث عن «وحوشنا الداخلية» خليقة العصر الحديث والتي تشوه أي شعور داخلي فينا يحاول الإبقاء على الخيال والحلم والرومانسية، المبادئ الأساسية كبديل وحيد لبقاء الإنسانية.

- Copyright © Scrabbles - Blogger Templates - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -