Posted by : Unknown
الثلاثاء، 24 أبريل 2018
في متحف “دي أوجستان” في مدينة تولوز، ثمّة معرضٌ لفنّان “مستشرق”؛ بنجامان كونستان (1845-1902). عاش بنجامان في تولوز، ودرس في معهدها للفنون الجميلة. لوحات المعرض تعبّر عن التطوّر الفكري والحسّي لدى كونستان، وتظهر أسلوبه الفنّي، المتنوّع بين الأكاديمي والكلاسيكي، مثل لوحة “هاملت والملك (1869)، حيث استعمل الألوان الغامقة والظلال، واختار “موضوعًا كلاسيكيًا” من مسرحيات شكسبير التي كانت تُعرض في باريس وقتذاك. يعدّ عام 1872 عامًا بالغ الأهمية في حياة كونستان، فخلال زيارته لصديقه الإسباني المستشرق ماريانو فورتني، المقيم في غرناطة، اكتشف كونستان قصر الحمراء، وعبّر عن انبهاره بالفنّ الشرقي. الأمرُ الذي ظهر لاحقًا في لوحاته التي يظهر فيها “الديكور” الشرقي” وتلك “العمارة المحلية” الشرقية؛ أعمدةٌ عالية، وقببٌ وعقدٌ، وزخارف جدارية متقنة. زد على هذا، ذاك الضوء الساطع الذي يتخلّل السطوح المكشوفة، وتلك الطبيعة الخلّابة الأدنى إلى جنات “ألف ليلة وليلة” وفراديسها.
بعد إسبانيا، جاءت زيارة طنجة في المغرب. هناك عبّر كونستان عن ولعه وشدّة غبطته حال وطأت قدماه الشرق المنتظر و”المُتَصور خياليًا” ماثلًا حقيقة وواقعًا أمامه،: “ها هي طنجة أمامي، مدينة أحلامي، حيث الضوء والبياض الساطع، إنه الشرق، إنه الشرق!… قلبي لا يسعفني بأن أتحمّل فكرة أن يكون كلّ هذا الجمال لي وحدي”. وتابع بحماسة العاشق لاكتشافه طنجة “الشرقية”: إنها ليست مدينة، بل متحفا يضمّ العديد من اللوحات الحيّة، فأينما جلتُ بنظري، أرى ما يدعوني لتحقيق “إنجازٍ عظيم”. ورغم اختلاف اللوحات المقدّمة للجمهور البرجوازي “الأغنياء الجدّد”، والـ “تجار” والـ “عسكر” من الفرنسيين المتعطّشين لمعرفة الشرق “الإيكزوتيكي”، إلا أن لوحات كونستان وغيره من الفنّانين المستشرقين تتشابه جميعًا وتتضافر لتكوّن “مخيلة مشتركة” تتغيّر باختلاف نظرة الفنّان الذاتية وتعبيره الخاص عن الحياة التي عاشها في المدينة العربية. لا نلبثُ ها هنا في لوحات كونستان، أن نلاحظ التأثير الكبير لأعمال أوجين دو لاكروا ومخيّلته عن الشرق. فقد زار دو لا كروا المغرب والجزائر، ورجع بتخطيطات وملاحظات عدّة، جعلته يرسم “تخيّله وتصوّره” للشرق.
في هذه اللوحات ثمّة طابع “السذاجة” و”الحلم البريء” الذي لا يتجاوز حدود المخيّلة والاستيهام الشخصيين. فطابع البطولة المرتبطة بالعنف يظهر في تصوير الرجال العرب كما في لوحة ” آخر الثوار” (1882) لكونستان مثلًا، ويظهر كسل النساء العربيّات وخمولهنّ، متكئات على وسائدَ محشوّة ومريحة، ملقاة على سجادٍ عربي مزركش في المجالس، ومحاطات بفواكه “إيكزوتيكية” وديكورات مُذّهبة وملابس مزركشة، في لوحة “الفلامنكو الوردي” (1876) لكونستان أيضًا. وكذلك في لوحات أخرى إيروتيكية، لعربيّاتٍ عارياتٍ في لوحة الـ “مستحمّات” (1862) لجان أوجست إنجريس، أو لوحة “مساج، مشهد في الحمّام” (1883) لإدوارد ديبات بونسان، أو لوحة دو لاكروا الشهيرة “نساء من الجزائر داخل منزلهن” (1849) التي صوّر فيها ملامح النساء الجزائريات بدقّة وطريقة لباسهنّ و حليهنّ، مبرزًا جمالهنّ الشرقي من خلال العيون الساحرة. في كلّ لوحة مماثلة، لا يلبث أن يظهر لنا الجهل بالشرق والمخيلة الساذجة والبعد التام عن تصوير الواقع.
صوّرت المرأة الشرقية، كـ “إيكزوتيك حسّي” مبني على “مخيلة” لا أساس لها من الصحة، حيث اقتصرتْ صورتها خلال هذه الفترة ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على “الاستحمام” و”تدخين النرجيلة” و”الكسل” و”التعري”، إذ لم يكن مسموحًا أبدًا للرجال، وخاصّة الغربيين، رؤية المرأة العربية في “الحرملك”. وشوّه هذا الأخير من خلال “نظرة” المستشرقين وخيالاتهم، ففي الأصلِ هو سكنى النساء حيث يجتمعن، وفيه يتمّ التثقيف وتبادل المعرفة والقراءة. وربّما اختلطت لدى المستشرقين فكرة “النظافة” و”الاستحمام” لدى العرب والمسلمين، بما هو حرملك النساء أو حرمٌ “متخيّل” و”ممنوع”، فاقتصرت أفكارهم عنه باعتباره مكانًا يجتمعن فيه من أجل الاستحمام فحسب. ومن المعروف أن دو لا كروا وغيره، استعملوا “عارضات” و”عارضين” يهودًا، كما استعملوا الجواري والإماء والعبيد، من غير المسلمين، نظرًا إلى تحريم رسم كلّ ما يشبه “الخلق الإلهي” في تلك الفترة. الأمرُ الذي دفع المستشرقين إلى الرسم خفيةً وبالسرّ في مشاغلهم.
ثمّة مواضيع أخرى، استوقفت دو لا كروا وكونستان: حياة الناس العادية واليومية، كما في الأسواق، والحفلات والأعراس والمدارس القرآنية والمدارس الموسيقية. ثمة، في وصف دو لاكروا وكونستان للشرق، تحقيقٌ لحلمٍ رومانسي ولخيالٍ خصب ٍلم يكن متوقعًا ومغايرًا تمامًا للعادات الغربية آنذاك. إذ تثير الدهشة ألوان بشرة النساء العربيّات المستعملة في اللوحات، وخاصّة “أجسادهنّ العارية”، إذ تمتلكن بشرةً شديدة البياض كبشرة الفرنسيّات الممتلئات في تلك الفترة. لكأنّ الفنّان ها هنا، يصوّر “ذاته” و”مجتمعه” من خلال تصوير “الآخر” العربي. أو لكأنّه يصوّر “فانتاسمًا ذاتيًا”، وإيروتيكيًا، يشخّص عذوبة المرأة العربية وحسّها “الشهواني” البارز في ترجمات ألف ليلة وليلة. هذه اللوحات لا يمكن إلا أن تحيلنا إلى نظرية ” التصوّر الجغرافي” وفقًا للفيلسوف ميشيل فوكو ويؤكده من بعده إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”. حيث استعملت كلمة “تصوري” من قبل المستشرقين كمرادف لـ “المحسوس” والـ “حيز” الذي يتمّ إنشاؤه من خلال النصوص والصور لبناء “فكرة اجتماعية” لأغراض السيطرة والنفوذ لـ “المستعرض”. لكن لا بدّ لنا من التذكير بأسباب مهمّة دفعت هؤلاء المستشرقين إلى الهرب صوب الشرق “المتخيل” في فترة تحكّم نابليون بالفنّ وإخضاعه لخدمته ومصالحه وسلطته إبّان حكمه لفرنسا، الأمر الذي ضيّق عليهم فشكّلوا تيارًا رومانسيًا فنيًا رسموا فيه “الأنا” أي نظرتهم الشخصيّة وشعورهم الخاصّ تيارًا رومانسيًا فنيًا رسموا فيه “الأنا” أي نظرتهم الشخصيّة وشعورهم الخاصّ صوب ما يرونه ويحيط بهم في مجتمعهم.